تقديم الشاعر فرج بيرقدار لتجربة دلدار فلمز الفنية في تحويل ديوان "مرايا الغياب" إلى لوحات.

Опубликовано: 07 Июнь 2024
на канале: Künstler Deldar Felemez
58
10

تقديم الشاعر فرج بيرقدار لتجربة دلدار فلمز الفنية في تحويل ديوان "مرايا الغياب" إلى لوحات.

ديوان "مرايا الغياب" بريشة دلدار فلمز

منذ الانقلاب العسكريّ الذي قام به الطاغية حافظ الأسد عام 1970، بدأت سوريا تأخذ شكل معسكر اعتقال، تتناسل في داخله سجون ونقاط اعتقال وزنازين لها وظائفُ أكثرَ تخصصاً، وبالتالي أكثرَ قدرة على الترويض أو التحطيم وتأسيسِ الغيبوبة ونشرِ الغياب.
وإذا كان المنفى صورةً للغياب، فإن السجن صورةٌ للتغييب الذي هو غياب أقصى، لا يتفوّق عليه سوى الموت بوصفه غياباً نهائياً.
عاينتُ وعانيتُ التغييب والغيابَ في سجون الأسد لأربعةَ عشرَ عاماً، وحين حاولت مقاربة ذلك الغياب في قصائدي، اكتشفت أني لم أكتب سوى عن ظلاله في المرايا، وهكذا نشرت تلك القصائد تحت عنوان "مرايا الغياب".
لاحقاً أخذتِ المرايا تصفو، وصرتُ أحسّها وأرى فيها ما لم أكن أُحسّه وأراه حين كتابتها.
للمصادفة، وللمفارقة أيضاً، صارت مجموعة "مرايا الغياب" أكثرَ انتشاراً وتداولاً وترجمةً وحتى غناءً، وبالتالي أكثرَ حضوراً من معظم ما كتبت، غير أن حضورَها الأقصى وتجلّياتِها الأبعدَ والأعمقَ والأكثرَ انخطافاً وارتجاجاً لم يكن من خلالها هي أو من خلالي أنا، بل من خلال استدراجها إلى كمائن لوحات الفنان التشكيلي دلدار فلمز، الذي أعاد قراءةَ واستقراءَ مجموعة "مرايا الغياب" ضمن مشروع فنّيّ تتكامل فيه لوحاته حتى صارت هي صوتَ الغياب، وغدتِ القصائدُ نوعاً من الأصداءِ، إن لم أقل الإصغاء.
أحياناً تبدو اللوحات مكتظةً بموتٍ مُشرِق أو مضيء، وأحياناً مسفوعةً بشهيق جمرِ الغيابِ وزفير رماده، كما لو أنّ الغياب صراعٌ أو عناقٌ بين الموت والحياة، وفوق كل ذلك هناك جراءات وتحدّيات في تكويناتِ وتشكيلات اللوحات وموادّها وتكنيكها. وعلى الرغم من الحجم الكبير لبعض اللوحات فإنها تنطوي على إلمحات وتلميحات وملامح أيقونية.
هي سلسلة لوحات تحرِّك الكوامن، وتستثير ما ينطوي عليه حالُ الغياب من طبقاتٍ وأضداد وأزمنة مطوَّحةِ على أنفاق وآفاق وعتماتٍ وأضواء.
لوحاتٌ تقيم حواراتها مع موضوعها "الغياب" ببساطة جارحة الدلالات والجماليات والرموز المفضية إلى جعل الغياب حضوراً لغياب أبعدَ وأكثرَ عمقاً واجتلاءً لمرايا الزمان وأقفالِ المكان وتواطؤِ ما بينهما من سكاكينَ ومفاتيح، وانعكاسِ وجوه المعتقلين وهواجسِهم على تلك المرايا، وضيقِ التنفَس داخلَ ما وراءها من زنازينَ مكويةٍ ببريق الدمع وبروقِ الإرادة، ومعجونةٌ جدرانها بأجساد المعتقلين.
لوحاتٌ تتجرأ على مزج طين الإنسان بطين الأرض، لتتجلّى بهما ناطقة ونابضة بالحياة.
هكذا يحضر الغياب في هذه اللوحات كما لو أنه ظلالٌ مخبوزةٌ في أفرانٍ تعيد تشكيله أو تنفي معناه وتدعوه إلى أن يتبنّى نقيضه.
قد ينطوي كلامي ظاهرياً على قليل أو كثير من الغموض والتناقض، ولكنه في صميمه ليس كذلك. ألم يكن الغياب حاضراً معنا دائماً، رغم غموضه دائماً، طوال سنوات الاعتقال؟
إذن لا يغيب الغياب إلا ليحضر في هذه اللوحات، كما كان في القصائد، ولكن على نحو أكثر اكتظاظاً وتجريحاً وإفصاحاً.
ستوكهولم 10 كانون الثاني/ يناير 2024